مرْكب حكومة الشاهد إلى أين؟
تمهيد ـــ قلق … لكنه إيجابي
بعد انهيار الائتلاف الحاكم وانشطار السلطة التنفيذية ، شعر الرأي العام بتونس لأول مرة بأن هناك أزمة سياسية ستؤثر في وضعه الاقتصادي والاجتماعي المتردي، وانتابته حيرة لكنها ليست حيرة عبثية تدفع نحو التشاؤم بل هي أقرب إلى القلق الإيجابي الذي تحيل إلى التفكير في الاسباب والبحث عن الحلول.ففيم تتجلى هذه الأزمة ؟ ما هي أسبابها ؟ ما هي تداعياتها الاجتماعية والسياسية؟
I ـــ تجليات الأزمة
تتجلى الأزمة في التشظي الذي حصل في حزب النداء الحاكم الذي ما لبث يتذرر حتى انتهى المطاف بكل شظاياه إلى التمترس في فسطاطين : فسطاط الباجي الرابض على هضبة قرطاج وفسطاط الشاهد الرابض على هضبة القصبة، وكل منهما يحشد ما لديه من أنصار ويوفر أمضى الاسلحة سواء على مستوى الداخل أو الخارج . والمعركة كما هي بادية لا علاقة لها بمشاغل الشعب والإصلاحات المنتظرة ، فلم يطرح أي منهما كيفية الخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية على مستوى البطالة وتدني المقدرة الشرائية وهبوط قيمة الدينار ونضوب العملة الصعبة وارتفاع المديونية. فهذه قضايا غائبة أو مؤجلة ، فالأولوية هي للحسم السياسي. وهذا ما صار يقلق الشعب ويجعله غير مطمئن على حاضره وعلى مستقبله ، بل صار يخشى من المفاجآت غير السارة التي ظهرت من خلال تلميحات الزبيدي وزير الدفاع ورفض رئيس الجمهورية التحوير الوزاري. تُرى ما هي الاسباب؟
II ـــ الأسباب
يمكن تأطيرها ضمن نوعين من الأسباب :داخلية وخارجية
أولا ـــ الاسباب الداخلية
1 ـــ استمرارية عقلية احتكار السلطة
بعد انتخابات 2014 كان هناك حرص شديد على وحدة السلطتين التنفيذية والتشريعية ضمانا لانسجام القيادة السياسية ، فتولى النداء الحزب الحاكم مسؤولية رئاسة الدولة والحكومة والبرلمان ،غير أن السيد الباجي سار خطوة أبعد في تأمين هذا الانسجام فحصر أدوات الحكم في العائلة، فتولى ابنه بالأصالة رئاسة الحزب الحاكم وتولى ابنه الروحي رئاسة الحكومة، بعد أن أبدى الحبيب الصيد شيئا من الاستقلالية في اتخاذ القرار استنادا للدستور.
2 ــــ تهميش المؤسسات الدستورية
طيلة 55 سنة كانت الحسابات السياسية وعلاقتها بلقمة العيش غائبة لدى المواطن، فقد تكفل بها الزعيم أو الرئيس إلى أن حطمت الثورة الصورة النمطية التقليدية للسلطة التي يكرسها الحزب الواحد والزعيم الأوحد، وأدرك الشعب خطورة التغييب والغياب، وكانت الانتخابات هي المجال التي سجل فيها حضوره في البداية، فأفرزت مجلس نواب الشعب الذي يجسد الارادة الشعبية. غير أن هذا المجلس لم يلبث أن وقع تهميشه ، فأحدث رئيس الدولة آلية موازية هي تنسيقية قرطاج 1، قرطاج 2، ثم قرطاج 3 والتي ضمت العديد من الفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومن خلال هذه الآلية أمكن للرئيس أن يسيطر على القرار فمرر قانون الزطلة وقانون المصالحة مع المفسدين ووقع تهميش البرلمان الذي تحوّل إلى ظاهرة صوتية لتسجيل المواقف دون فعل . نزلت هذه الآلية بردا وسلاما على مكونات التنسيقية وخاصة التي ليس لها تمثيلية في البرلمان، حيث صارت مصدرا للتقييم وللتقويم ولاتخاذ القرار. وانطلاقا من هذه التنسيقية بدأت الأزمة السياسية والتي تمحورت حول سؤالين هما :هل نجحت حكومة الشاهد في مهامها؟ وهل نٌبقي عليها أو نُزيحها ؟ وقد نظرت المكونات في 64 مسألة، واتفقت في 63 ، ملخصها أن حكومة الشاهد قاصرة أو مقصرة ،المهمّ أنها لم تنجح في مهامها ،لكنها اختلفت في بقائها أو رحيلها رغم فشلها، فأصرّت النهضة على بقائها وأصر النداء والاتحاد على رحيلها، لكن ليس لنفس الأسباب . وكان السيد الباجي ــ طوال هذا التجاذب صامتا ـــ يخفي رغبته في الرحيل، وينتظر أن تعفيه هذه التنسيقية التي اختارها بنفسه من الحرج ، لكن قرارالعصيان كان جاهزا، وكانت النهضة أول من رفع عصا التمرد في وجهه ثم تصاعد العصيان بل اقتحم بيته، فتناثرت حبات النداء مما اضطرّه إلى الدخول إلى المعركة بنفسه دون قناع .وفي المقابل تمكّن الشاهد من نسج علاقة جديدة مع النهضة لم يعرف الشعب طبيعتها، وافتكّ جزءا هاما من النداء وتشكلت كتلة الائتلاف الوطني في البرلمان، ثم تعززت صفوفه بصاحب المشروع محسن مرزوق المزروب متخليا عن التزاماته بعدم التعايش مع النهضة بعد أن انسحبت كتلة حزب الاتحاد الوطني والتحقت بقيادة النداء بل صارت هي القيادة،ثم التحق صاحب المبادرة الذي كان خليفة منتظرا لابن علي كما خطط الامريكان، واكتفى سمير بن الطيب بأن ينجو بنفسه رضي المسار أو غضب. وبهذا الحشد النيابي صار الشاهد في مأمن من الفشل في البرلمان وتجاوز العتبة المطلوبة (109)، فمرر المصادقة على حكومته بكل يسر رغم اعتراض النداء ووجود المطبعين ورفض المعارضة واحترازات الباجي الذي وافق أخيرا على قبول أداء القسم بقصره.
3 ـــ التموقع في السلطة وغياب الوازع الأخلاقي
غالبا ما يرفع السياسيون شعار <<الطموح السياسي حق مشروع >> للأفراد والجماعات، وهو كذلك ، لكنهم يتناسون أن الطموحات قد تنقلب إلى أطماع إذا لم يرافقها وازع من الأخلاق، وكان هذا الغياب من أهم أسباب انهيار الحياة السياسية في بلادنا، وليس هذا وليد اليوم بل ظهر منذ فجر الاستقلال عندما انقلب الأخ على أخيه مستعينا بعدو الأمس،وسقطت المقولة العربية << أنا وأخي على ابن عمي، أنا وابن عمي على الغريب >> ثم وقع احتكارالسلطة بعملقة الزعيم وتقزيم الشعب، كان من نتيجتها أن عوضت الشرعية التاريخية الشرعية الانتخابية ، وغاب الشعب عن الحياة السياسية مما فسح المجال لبروز العديد من الأحداث العنيفة والتحولات المفاجئة.هذه السياسة رغم فشلها، تحولت إلى ثقافة مرجعية. وما تعيشه تونس اليوم يعود في جزء كبير منه إلى ثقافة هذه المدرسة والتي يمكن اختزالها في<< العبرة بالنتائج >> وهي نظرية ميكيافليي <<الغاية تبرر الوسيلة>>. ويبدوغياب الوازع الأخلاقي لدى طرفيْ المعادلة: أسد قرطاج وأسد القصبة . فالسيد الباجي كان وفيا لمدرسته فهو مهوس بأن يحكم وحده ،وأن يكون صاحب القرار الحاسم ، وقد تجلى ذلك في إبعاد الطيب البكوش ومحسن مرزوق الخطيرين وانتداب الرجل الطيب الحبيب الصيد وهي عملية استنساخ لتعيين بورقيبة للسيد الباهي الأدغم ( النفس المؤمنة) . وبنفس الطريقة ولنفس السبب وقع إبعادهما (الباهي والصيد)، ثم وقع تعيين من هو أقرب إلى بيت الطاعة فتولى الهادي نويرة في بداية السبعينات رئاسة الحكومة وهو أقرب المقربين لبورقيبة.وانقلب عليه عند توقيع معاهدة جربة 12 جانفي 1974 الوحدوية وحشد الدعم الأوروبي الناقم بطبعه على القذافي. وسرعان ما تحوّل بورقيبة إلى شبه أسير في قصر قرطاج لم تفكّ أغلاله إلا مجزرة 26 جافي1978 وحاجة النظام لتقنينها.
ورغم التباعد في الزمن تعاد نفس المهزلة فيعين الباجي سنة 2016 السيد الشاهد في نفس الخطة ولنفس الهدف فهو شخصية من العائلة مطمئنة ، وكأن الزمن ثابت ولا فاعلية له والثورة جملة اعتراضية أو قوس أُغلق . غير أن الحسابات الذاتية الضيقة لا تصمد أمام التحولات الموضوعية الفاعلة ،فالسيد الشاهد لا يختلف كثيرا عن الصيد ، فقد يكون تعرض لنفس الضغوطات والاستفزازت فأحس بنفس إحساس الحبيب الصيد، المهم أنه كان الثورالأسود الذي اتعظ بتجربة الثور الأبيض الذي أكله الأسد الهرم الجائع، ووجد الظروف المساعدة التي وفرتها الثورة : الدستور،هشاشة حزبه،التحالفات المغشوشة،التباينات المصطنعة،الأطماع الخارجية فلعب معها وعليها، ضاربا عرض الحائط بقيم الوفاء للأب وللعائلة، فأبق وتمرد فقتل أباه عن قصد وليس عن غفلة كما وقع لأوديب الملكŒdipe roi الذي قتل أباه وتزوج أمه وكانت النتيجة مأساوية على الجميع: الأب والأم والابن وعلى البلاد
ثانيا ــ الأسباب الخارجية
صحيح أن الأزمة في ظاهرها سياسي بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة وهي صراع حول التموقع في الحكم مع انتخابات 2019 ،وكل صراع لابد أن يستند إلى قوة محلية أوعالمية تدعمه وتوفر له أكثر ما يمكن من حظوظ النجاح .ولا يشذّ ما يحدث في تونس عن هذا السياق العام، وإذا كان الصراع المحلي قد حسم أو يكاد، لفائدة الشاهد فإن كسب الرهان الخارجي مازال محل مزايدة ومناقصة ،ولا يخلو من صعوبات حيث أن الطرفين المتنافسين ينهلان من ينبوع واحد هو الاتحاد الأوروبي، فلهما نفس الخيارات وقدما نفس الالتزامات، وهنا تصبح المسؤولية منوطة بعهدة الاتحاد الأوروبي الذي سيختارفرس الرهان المستقبلي الذي سيضمن له مصالحه الاقتصادية والثقافية.ففيم يتمثل دورالرجلين لفرنسا بالتحديد ؟
1 ـــ الباجي يعيد عقارب الساعة للوراء
منذ فجرالاستقلال حسمت فرنسا الصراع الذي حدث في تونس بين مشروعين وإرادتين وشريحتين:فاختارت من والاها وحافظ على مصالحها وقمعت بقوة السلاح من يروم تحقيق سيادة وطنية تنجز مشروعا وحدويا قوميا ، فصارت سيادة تونس مرتهنة لمن يملك لقمة عيشها ويقدم الدعم لفارسها . مع انفجار الثورة تخوفت فرنسا من أن تفلت تونس من فلكها وأن يدخل الفريق الحزبي ــ الذي كانت تعوّل عليه ــ عالم النسيان فحاولت أن تتدخل لإتقاذه، لكن وتيرة الثورة كانت أسرع ولا يستبعد أن يكون الرئيس الفرنسي هولاند وراء عملية اغتيال الشهيدين لإرباك الوضع وإجهاض الثورة ،فقد جاء في كتابه<< اعترافات>> أنه تدخل لاغتيال أربعة وهو دون ما فعله غيره من رؤساء فرنسا. ومع 2012 تمكّن الباجي من جمع شتات الحزب الذي حكم طيلة 55 سنة تحت عنوان النداء مضيفا بعض الروافد من النقابيين واليسار المساوم والمستقلين، وهو النسخة الرابعة للحزب الدستوري( الديوان السياسي)، استطاع أن يخوض به انتخابات الاستقطاب الثنائي: الحداثة والسلفية، ثم التقى الخطان المتوازيان النهضة والنداء ولعلها استجابة للراعييْن ، فرنسا مظلة النداء وأمريكا مظلة النهضة. وحتى تسترجع الثورة المضادة مكانتها تبنى الباجي 3 مشاريع: مشروع الزطلة والعفو على الفاسدين من رجال المال والأعمال والإداريين ثم تبنى مشروع الحريات الفردية والمساواة الذي أوصى به للاتحاد الأوروبي سنة 2016، ولم تكن هذه المشاريع استجابة لرغبة جماهيرية أو هي استحقاق وطني بل حُملت على أنها رغبة أوروبية لعودة المنظومة السابقة تحت عنوان الحريات .وفي ذروة الصراع بين القصبة وقرطاج أشاد الرئيس ماكرون في قمة الفرانكفونية بالباجي كرجل حداثي تقدمي يقاوم الظلامية، وقد حُمل أيضا هذا التدخل على أنه انتصار له ضد الشاهد وحليفته النهضة.فالسيد الباجي بهذه المبادرات أحيى العظام وهي رميم وأعاد الاعتبار لمنظومة الاستبداد والفساد وحافظ على تونس كحديقة خلفية لفرنسا التي قد تكون اعتقدت أنها أرجعت عقارب الساعة إلى الوراء .ذاك هو الدور الذي اضطلع به السيد الباجي في الماضي فهل سيكون فرس رهانها في المستقبل؟
2 ـــ الشاهد رهان المستقبل
إن المنظومة الرأسمالية العالمية ـ كما يقال دائما ــ ليس لها لا أعداء ولا أصدقاء دائمين وإنما لها مصالح متواصلة ومتجددة ،ولا يهمها أن تعرف الماضي كيف كان إلا بقدر ما يساعدها ذلك على صنع المستقبل كيف يجب أن يكون. وانطلاقا من هذه القناعة يدرك كل ذي بصر وبصيرة أن الباجي انتهى دوره، ومن الصعب تجديد العهدة له. لقد نجح الشاهد في أن يقنع الاتحاد الأوروبي أنه الأقدر على حماية مصالحه خاصة على مستوى استرجاع الديون المتخلدة بذمة تونس وتطبيق برنامج الإصلاحات الكبرى الذي يتناول ــ أساسا ــ تصفية المؤسسات العمومية ، كما تعهد بتوقيع الاتفاق الشامل والمعمق سنة 2019 .فالشاهد بحكم تعهداته وسنّه وجرأته هو الأقدرعلى طمأنة الرأسمالية على مصالحها في تونس.
3 ــــ التطبيع رسالة مشفرة من الشاهد والنهضة
أ ــ التوظيف المالي لليهود :حفر في الذاكرة
ليست المرة التي يقع فيها توظيف بعض رموز الجالية اليهودية لتحقيق مآرب شخصية أو سياسية عادت على أصحابها بالوبال ،فقد سبق لرجل الأعمال محمود بن عياد أن وظف ـــ في القرن التاسع عشرـــ اليهودي نسيم شمامة لإنماء ثروته ثم وظفه مصطفى خزندار ــ رمز الفساد ــ للسهر على أموال الدولة، إلى أن حلت الكارثة بالجميع بعد فراره بثرواته والتوصية بها لخاصته في أوروبا وفي تنشيط المشاريع الصهيونية في فلسطين قبل احتلالها. وفي فجر الاستقلال عين الطاهر بن عمار ألبرت بسيس كوزير للتخطيط العمراني(1955) وعلى دربه سار بورقيبة فعين أندري باروش كاتب الدولة للتعمير والإسكان(1956ــ 1959) وتوقف هذا التوظيف طوال 4 عقود ليُستأنف سنة 2005 بتعيين ابن علي لرجل الأعمال روجي بزموت رئيس الطائفة اليهودية عضوابمجلس المستشارين . ولم يكن لقيادات الحزب الدستوري أي نظرة عدائية للكيان الصهيوني بل هناك رغبة للتعاون معه.
بعد الثورة لجأ المهدي جمعة ـــ رئيس الحكومة الانتقالية والذي صار رئيس حزب البديل أحد أحزاب المناولة ــ إلى آمال كربول المطبعة المتصهينة وكلفها بوزارة السياحة أملا في تنشيطها ولم تجن منها تونس غير حملة تشهيرية شنتها هي ومحيطها على الشعب التونسي ( التعصب المنغلق)، ولم تسجل السياحة أي تحسّن.ِِ وفي إطار التوظيف أيضا عينت النهضة في قوائمها البلدية بالمنستيرسيمون سلامة ولم يكن ذلك سوى رسالة موجهة للرأي العام الخارجي مفاده أن النهضة حزب مدني وليست حزبا دينيا كما يتهمها خصومها.
كل هذه التوظيفات لم تنجح بل أثارت الشبهات حول الموظّف(بكسرالظاء) والموظِّف(بفتحها). وبعيداعن سياسة التوظيف ظهرت عدة شخصيات يهودية في مجال الطرب والسينما مثل ألبار شمامة شيكلي ورؤول جورنو والحبيبة مسيكة التي كانت نهايتها مأساوية. كما ظهر المؤرخ بول صباغ الذي أوصى بتقسيم مكتبته الثمينة بين تونس والكيان الصهيوني ومنه بدأ التطبيع الأكاديمي.غيرأن هذه الطائفة أفرزت مناضلين وطنيين هما : جورج عدة وجلبار نقاش فأين يبدو ذلك؟.
ــ جورج عدة :سياسي وطني يساري ونقابي سجنته فرنسا لدوره الوطني ، انخرط في الحزب الشيوعي وناضل في صفوف اليسار،دافع عن استقلالية جامعة عموم العملة التونسية الثانية التي استولى الحزب الدستوري على مقرها سنة 1938،وقف إلى جانب الاتحاد العام في كل محنه ، تصدى للصهيونية ودافع عن حقوق الشعب الفلسطيني ورفض مقررات أوسلو التي لا تستجيب لطموح الشعب الفلسطيني، وهو أقرب إلى أطروحات الجبهة الشعبية(جورج حبش)
ـــ جلبارنقاش مناضل ضمن حركة آفاق اليسارية الذي دافع عن قناعته الفكرية ودفع ثمنها سجنا في برج الرومي1968 /1979 وقد قدم شهادته في جلسات الاستماع التي نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة حول تجاوزات وانتهاكات النظام لحقوق الانسان.صدرت له ثلاثة مؤلفات:1 رواية صفاء cristal سنة 1982 ، 2 السماء فوق السطح ،le ciel est par dessus le toit سنة 2005،3 ماذا فعلت بشبابك Qu’as-tu fait de ta jeunesse ?.سنة 2009.هذان المناضلان لم يخضعا لا للتوظيف ولا للابتزاز وسجلا حضورهما في تاريخ الحركة الوطنية والتصدي لمنظومة الاستبداد كبقية المناضلين ولا يمكن المزايدة عليهما.
ب ـــ التوظيف السياسي للمطبعين
في إطار المغالبة مع الباجي ،انتاب الحليفان الشاهد والنهضة تخوف من الدعم الفرنسي للباجي فعمل الشاهد بتعاون مع النهضة على بعث رسالة واضحة للرأسمالية العالمية والصهيونية، مفادها أن تونس لا تغرّد خارج سرب موجة التطبيع التي تجتاح المنطقة منذ أن أعلن ترامب عن مشروع صفقة القرن والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، فوجّها للباجي ضربة قاضية تقسم ظهره وترفع من رصيدهما لدى الأوساط العالمية النافذة فوظفا متصهينيْن في حكومته أحدهما مسلم الديانة هو أحمد قعلول النهضوي الذي اعتزم جلب فريق رياضي صهيوني(التكوندو) لتونس في إطار سياسة التطبيع، ولم يُثنه عن مشروعه إلا حكم قضائي، والآخر هو روني طرابلسي الذي ينتمي إلى اليهودية ثاني ديانة في تونس. هذه الجالية كثيرا ما تُؤخذ بعين الاعتبارلا لتعداد سكانها الذي لم يتجاوز 2500 نسمة.لكن لنشاطها المالي والتجاري ،لكن ـ أساسا ــ لمظلتها الصهيونية العالمية. فتوظيف هاتين الشخصيتين وخاصة الطرابلسي يتنزل في إطارالمزايدة السياسية على الباجي للاستقواء بالصهيونية العالمية، ومن الأكيد أنها أقدر من فرنسا على ترجيح موازين القوى لفائدة الحليفين.
ج ـــ صحوة حزب المسار وجمعية LICRA الصهيونية
تزامن التطبيع الحكومي مع سقوط أقنعة التطبيع على مستوى المجتمع المدني، وكان ضحيته حزب المسار الاجتماعي الديمقراطي الذي تعود جذوره إلى الحزب الشيوعي مع العقد الثاني من القرن العشرين،وهو أقدم حزب شيوعي في تونس ومنه تسربت النظرية الماركسية للشباب التونسي. لكنّ هذا الحزب لا يستفيق من غفوته إلا متأخرا ، فقد تسرب إلى صفوفه العديد من الحركيين والصهاينة والفرانكفونيين وشوهته وشلت عمله. فقد اكتشف مؤخرا أن أحد رموزه الاستاذ الحبيب الكزدغلي المطبع ــ الذي طالما رفع لواء التصدي للسلفية وهو رئيس جامعة منوبة ــ كان يسوّق لجمعية صهيونية هي LICRA( الرابطة العالمية لمناهضة العنصرية واللاسامية الفرنسية منذ 1927) التي نجحت في تأسيس فرع لها بتونس تحت عنوان لجنة الدفاع عن الأقليات ومناهضة العنصرية واللاسامية والمقصود بالأقليات:اليهودية والميسحية والبهائية، وهو مؤشر خطير يدفع الوطنيين إلى التساؤل عن وجود كمّ هائل من جمعيات المجتمع المدني التي تتدثّر بالحداثة وتتمول من مراكز أوروبية مشبوهة وهي لا تقل خطورة عن السلفية الدينية ، وكل منهما تبرر وجودها بالأخرى وتتغذى منها. فقد أصدر حزب المسار بيانا أعلن فيه عن تجميد عضوية الكزدغلي ولم يكن ذلك إلا تحت ضغط الفضيحة التي كشف خيوطها سليم اللغماني أستاذ القانون الدولي والعضو بلجنة الحريات الفردية والمساواة الذي دعته زميلته الأستاذة سلوى الحمروني لتقديم عرض حول مشروع اللجنة بدلا عنها لفائدة هذه الجمعية، ولم يكتشف خيوطها إلا بصعوبة حيث رفض كل من الكزدغلي والأمين الجلاصي (نائب الرئيس) مصارحته بحقيقة هذه الجمعية الصهيونية وقد اعترف الرجل بمغالطته وأعلن للرأي العام الخلفية الصهيونية لهذه الجمعية التي تتقنّع بالدفاع عن حقوق الانسان وتُخفي نزعتها الصهيونية وتحصلت على تأشيرة قانونية صدرت بالرائد الرسمي للعمل بتونس منذ جانفي2018 . فالحكومة إما أن تكون مدركة لحقيقة هذه الجمعية وتركتها تمرّ وهي مصيبة أوغافلة عنها فتلك مصيبة أعظم.نتيجة لهذه الحسابات مررالشاهد المصادقة على حكومته بكل يسر رغم اعتراض النداء ورفض المعارضة واحترازات الباجي الذي وافق أخيرا على قبول أداء القسم في قصره.
كانت هذه المعركة الفرصة الذهبية التي استثمرتها الفعاليات الوطنية والقومية ـــ وبالتحديد الجبهة الشعبية وحركة الشعب والتيار الديمقراطي والكثير من مثقفي المجتمعي المدني والاتحاد العام التونسي للشغل ـــ لتعميق الوعي لدى الشعب بالصهيونية وأخطارها وأطماعها وعلاقتها بالمرتزقة بتونس
IIIـــ ما نستخلص من هذا الحدث ؟
أولا ـــ فشل الثورة المضادة في استعادة الحكم المطلق فقد سقطت مقولة << أنا أحكم وحدي>> من داخل المنظمومة نفسها وتأكدت مقولة أن التاريخ لن يعود إلى الوراء ، فالزمن ليس فراغا بل علاقات وتحولات اجتماعية واقتصادية وفكرية، فالثورة ليست قوسا أُغلق بل مسار انفتح ،وتبخر حزب النداء أو يكاد، والذي عملت فرنسا على إحيائه لحماية حديقتها الخلفية بمحتوياتها الاقتصادية والثقافية منذ فجر الاستقلال.
ثانيا ـــ عودة الوعي بضرورة فك الارتباط بين الهوية العربية الإسلامية المناضلة والإسلام السياسي المساوم، فقد اتضح لكل ذي بصر وبصيرة أن الإسلام السياسي بشقيْه المتطرف والمعتدل، قد سقط في مستنقع القوى الاستعمارية والصهيونية وأساء لهويتنا العربية الإسلامية المناضلة التي من أجلها حوربنا وبها حاربنا، فهذه القوة الروحية الكامنة في أعمق أعماق شعوبنا قد احتكرها الإسلام السياسي ووظفها في سبيل مآرب فئوية أساءت للإسلام الذي تحوّل إلى قوة ارهابية مدمرة أو أداة للمساومة السياسية على حساب سيادتنا الوطنية وطموحاتنا القومية وقيمنا الإنسانية التحررية. فهذا المخزون الحضاري الثقافي الروحاني لا يمكن التفريط فيه تحت أي مبرر ولأي طرف كان. فالإسلام في منطلقه ثورة لكنه تكلس وسقط في أيد تساوم مع السلطة وتشرعن وجودها، فصار لزاما على القوى الوطنية والقومية واليسار المتجذر استعادته وتجنب السقوط في المزايدات به وعليه.إنها محاولات عبثية لا تفضى إلا إلى الاستلاب والاغتراب والانبتات.
ثالثاـــ كشف القناع عن السلفية بشقيها الديني والحداثي فهما وجهان لعملة واحدة فالأولى إسقاط في الزمان ،تشدنا إلى الوراء والثانية إسقاط في المكان تجر الشعوب نحو مستنقع التبعية ،ولكليهما أجندة خفية يعمل على تمريرها والتسويق لها، تبدو في الظاهر متناقضة مع الأخرى ولكنها تتغذي منها وبها تبرروجودها وفي آخر المطاف ينتهيان إلى نتيجة واحدة،هي هدم أركان المجتمع بداية من العلاقة الأسرية إنهما معولان للهدم حسا ومعنى.
رابعا ــ حكومة من ؟
تساؤل مركزي ما لبث يتردد على السنة السياسيين في حين أن الإجابة عنه واضحة،إنها حكومة الأطراف المكونة لها والفاعلة فيها الظاهرة والخفية وهي:
1ـــ حكومة الاتحاد الأوروبي الذي وضع حدا لسلطة الباجي بعد أن انتهت مهمته بعودة الثورة المضادة واختارالشاهد كفرس رهان مستقبلي يحفظ له مصالحه الاقتصادية والثقافية ليمرر من خلاله إملاءات صندوق النقد الدولي منتهكا السيادة الوطنية.
2ـــ حكومة الصهيونية العالمية التي تريد أن تسجّل حضورها في مهد ثورات الربيع العربي بعد أن طبّعت سرا وعلنا مع دول الخليج التي اهتزت أوتاد خيامها بعد الثورة ثم ارتمت في أحضان الصهيونية وأمريكا خوفا من إيران
3ــ حكومة النهضة التي تريد أن تخرج من منطقة الاستهداف داخليا وخارجيا وتحتمي بالسلطة تجنبا لتداعيات الألغام القابلة للانفجار ولعل آخرها ما صرح به الشيخ راشد بأنه وضع فيتو على الوزراء<< الفاسدين>> ثم اعتذر وتراجع .
4ــ حكومة الوصوليين الذين يسعون للتموقع بكل ثمن مبدأهم : الغاية تبرر الوسيلة
5ـــ حكومة الشاهد الذي تمرد على الأب ورضي بالتحالف مع كل هذه المكونات المتناقضة لتحقيق ما له من طموحات وأطماع
والهدف القريب والمباشر لها جميعا هو استهداف المنظمة الشغيلة بحمولتها المطلبية:الاجتماعية والاقتصادية الرافضة لهيمنة الرأسمالية العالمية وبإصرارها على رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني بكل أشكاله.
IV ـــ أين سترسي هذه الحكومة مراكبها؟
لا أعتقد أن هذه الحكومة الثالثة للشاهد ستبحر بعيدا، بل قد لا تغادر الشاطئ ، فالأمواج عاتية والمناخ مكفهر والرؤية ضبابية ، كما أن ربان السفينة غيرمحنك. وإذا استطاع أن ينجح في إزاحة الباجي وتفكيك النداء فإن ذلك يعود في جزء كبير منه إلى نفور الشعب من الثورة المضادة التي جسدها حزب النداء. ولهذا الغرض تعاطف معه المنسحبون والعديد من قواعد هذا الحزب، كما أن القوى الأجنبية لم تعد لها مصلحة في بقاء الباجي. أما النهضة فهي سند غير دائم تبحث عمن يؤمّن لها وجودها ويقيها من الأخطار ويضمن استمرايتها. وهنا يطرح السؤال؟ عمّ ستسفر الانتخابات الحاسمة لسنة 2019؟ مازال المشؤل: هل العلاقة بينهما هي زواج كاثوليكي دائم أم زواج متعة لمسافرعابر.أعتقد أن الثاني أقرب، فهي لن تكون أوثق من علاقة النهضة بالباجي. في انتظار ما ستسفر عنه الانتخابات التي لا أتصور أنها ستغير الخارطة السياسية بشكل جذري ، لكنها ستحمل مفاجآت غير سارة للتحالف الذي كان حاكما ،وحتى للقوى العالمية المهيمنة الحريصة على استمرارية الثورة المضادة في دثار جديد، لكن من الأكيد أن عجلة الثورة لن تدور إلى الوراء.
سالم الحداد/ زرمدين /المنستير/20 نوفمبر2018